المثقفون بقوة والفنانون بشدة والمفكرون بعنف والمرفهون بسخاء قد انتشلونى من بئر الجهل وسوقية الكلمات ولغة الشارع فشكرهم واجب ولولا أن الفضل كله لله لقلت أن فضلهم علينا من قمة الرأس لأسفل القدم!.. تعلمنا على أيديهم كيف تكون الثقافة.. كيف تدافع عن رأيك وتموت فى سبيله حتى وإن كان هذا الرأي يخالف كل عرف ودين!.. نهلنا من علمهم الغزيز فعرفنا كيف نعتلى المنابر وكيف نرتدى جلباب الإقتصادى طلعت حرب وقميص السياسى سعد زغلول وقفطان الشيخ الشعراوى!.. تعلمنا أن نحل مشكلة الإقتصاد مع نفس سيجارة وكيف نحل معضلة السلام مع حجر شيشة وكيف نفسر القرآن فى مقال!.. وما زلنا نحاول جاهدين أن نتعلم منهم كيف نستدل بآيات من القرآن الكريم على أشياء توافق هوانا؟! حتى وإن وضعنا جزءا من آية "لاتقربوا الصلاة" داخل إطار وعرضناه على أولادنا لنقول لهم أليست "لاتقربوا الصلاة" بين دفتي المصحف الشريف؟!.. ما زلنا نحاول أن نتعلم كيف "يحرفون الكلم عن مواضعه".. نحاول أن نتعلم لكن ماذا نفعل ولغة الشارع هي السائدة والمتسيدة التى محت كل أثر لمجهوداتهم العظيمة.. كنا نتمنى أن نكون مرفهين نطلب قرص الأسبرين بالتليفون وساندوتش الهامبرجر بالمحمول حتى لانضطر لأن نهبط إلى الشارع ونقف فى طابور العيش الذى يسميه المثقفون (خبز) ويطلق عليه الفنانون (كايزر).. ومن طابور العيش إلى محل الفول والطعمية أو الفلافل بلغة (الغرب المصرى) فى الأسكندرية مع أن الطعمية من الفول لكن المصريين قد ابتدعوها حتى لا يسأموا "الطعام الواحد" كما استنبطوا أطعمة أخرى من الفول منها البصارة والفول النابت.. وفى طابور العيش وطابور الفول لن تسطيع غلق أذنيك أمام تيار اللغة السوقية والألفاظ الجارحة للشعور فتغسل الكلمات الساقطة فى النهار كل أثر لكلمات المثقفين والفنانين والمفكرين التى اكتسبتها فى الليل ودفعت فيها جنيها كاملا عن كل ساعة تتسمر فيها أمام الشاشة المبهرة إذا كنت فى المنزل وجنيهان أو ثلاثة إن كنت ضيفا على أي (نت كافيه).. ولو أن الساعات التى تقضيها داخل (النت كافيه) ستكون خليطا من كلمات المثقفين بقوة والمفكرين بعنف من التى تأتى عبر الشاشة وكلمات أخرى لا ترقى لمستوى المثقفين تأتيك مباشرة عبر هواء المكان من الشباب المحيطين بك وتكون الفاجعة أنك لا تفهم هذه أو تلك.. الأولى لعلوها المبهر والثانية لانخفاضها الشديد!..
العيون مثبتة على إحدى صفحات (شباب مصر) فأقرأ:
"اعتماداً على تاريخ الإسلام السياسي الذي هو رصيد أي حركة أو حزب سلطوي ديني عنصرى مثالى أو ينحاز بأفقه السياسي وروحه النظرية نحو الإيمان اللاعقلي بالحادثة التاريخية المجمدة في صدر النص التاريخي نستطيع ان نستقرأ وعي تكوين الخطاب لدى جماعة الإسلام السياسي ومعرفة توجهاتم وآرائهم حول جملة قضايا أهمها لديهم ما يسمونه فقه إعادة صياغة الإنسان وفق اطروحات يرونها جادة وموضوعية ونقر بأنها عبث وسلفية وتقوم لأجل تحريك بينة وعي الإنسان إيمانياً الذي هو جزء لا يتجزأ من الكيان الإنساني نحو أن يؤمن بمبدأ العمل آلياً ليجددوا فيه ثقافة الوجدان الغائب"
أشعر بالتوهان وأتحسر على الأيام التى ضاعت من العمر ولم أتعلم بعد!..
يأتى إلى مسامعى حوار بين شاب بجوارى وصاحب (السيبر):
- ياعم الكمبيوتر كل شوية (يهنج).. دا بينه فى (الأشوش)!
تذكرت حوارى فى الصباح مع الميكانيكى:
- وحياتك يا اسطى عبده شوفلى العربية بتقطع ليه؟
-- الأبلاتين (لدع)!
- ما انت لسه مغيره الأسبوع اللى فات!
-- ما انت عارف قطع الغيار كلها (مضروبة)!
- يعنى إيه؟!
-- يعنى فى (الهجايص)!
ولم أشأ الإستفسار مرة أخرى عن هذه (الهجايص) حتى لا يتهمنى الأسطى عبده بالتخلف!..
أخفيت ابتسامة على من حولى من الشباب عندما تذكرت حوارى مع الأسطى عبده خوفا من اتهامى (بالهرشة فى اليافوخ!) أو أصابنى ما يسمى بلغة الروشنة على الساحل الشمالى (بهيظة الفهايص ) فعاودت القراءة فاستعصى علي الفهم!.. أخذت أتنقل من مقال إلى آخر فى (شباب مصر) فحمدت الله أنى أتفاعل مع المكتوب وأفهمه إلى أن وصلت لهذه السطور:
" وهي وطنية محدثة ومزيج لوطنيات طائفية وعرقية ومذهبية وقومية وعشائرية وقبلية وتجارية وما الى ذلك، وحسبما صرح به المراقبون المختصون بالشرف الوطني...وقد استنكر بعض الوجهاء المناصرين لوطنية المكونات،استنكر التقليل من شأن هذه الوطنية البديلة وافاد بأن محصلتها النهائية ستكون مشابهة ولحد ما للوطنية التقليدية من حيث الجوهر!، واطلق عليها اسم الوطنية الفسيفسائية من باب التوضيح، واضاف مفتخرا بأنها النموذج المناسب والأمثل للواقع الجديد والذي سيرفع اسم الوطن والوطنية التقليدية الى ظلمة معقولة مباركة..!"..
إلى هنا شعرت بدوار مما ينذر بغيبوبة.. وقلت بالتأكيد أن العيب عندى وفى فهمى المحدود بدليل أن المقال قد تم قراءته من غيرى وعلق عليه.. إذن فعقلى ينتمى لفئة العقول (الضيقة) على حد وصف أحد الكتاب لذوى العقول الضيقة بأنهم قوم لا يستطيعون أن يستوعبوا فكرة تفصيل الدين على مقاس العباد وأنه على كل منا أن يعبد الله بطريقته وعلى هواه وليس كما أمرنا الله سبحانه وتعالى! وأننا " شعوب لا تنضج وستظل في مرحلة المراهقة الفكرية والحضارية" ويجب هنا أن نعترف بعدم النضح وأن المراهقة ليس لها مرحلة عمرية! ونحيى ذكرى ليلى مراد رحمها الله فنغنى "كلام جميل.. كلام معقول.. مقدرش اقول حاجة عنه"!.. ولأنى لم أستوعب كل هذه الأفكار أستطيع أن أجزم بأن عقلى قد (ضاق) على (نافوخى) ويحتاج إلى (قالب)!.. أو ربما الطبيب الجراح الذى قام باستئصال (الأعور) قد ضل طريقه فذهب إلى منطقة (الدماغ) ليمارس هواية الإستئصال!..
صببت اللوم على نفسى كيف أقرأ مالم يصل إليه المستوى الثقافى لغير المثقفين من أمثالى.. هذا ليس تهكما لا سمح الله بل هي الحقيقة وللكاتب كل الإحترام والتقدير.. وهأنذا أعترف بجهلى حتى لا أثير حافظة أحد ممن يتوهمون أن على رؤوسهم بطحة وأن تعليقاتنا (هايفة) وهي (للتشجيع) فيصيبنى بعض الرذاذ الذى ينطلق هنا وهناك ضد من نعتوهم بالإسلاميين تارة والمتأسلمين تارة أخرى.. فليس كل قارئ قادرا على استيعاب المكتوب لأن غير المثقفين من أمثالى يستطيع اكتشاف نفسه فى أزجال بيرم التونسى وأشعار عبدالرحمن الأبنودي وأغنيات أحمد رامى وأن يستمتع بقصص توفيق الحكيم ذات اللهجة القريبة من العامية وكل أمانيه أن يستوعب أشعار شوقى وكتابات المنفلوطى.
إنتابتنى حالة من الندم على أنى لم أتعلم جيدا.. لم نقرأ للكبار فأصبحنا من الصغار!.. وسط هذا التلاوم مع النفس يأتينى صوت الشاب الذى يجلس قريبا منى يقول لصاحبه:
-- بقول لك إيه.. أنا جعان.. ماتيجى (نملى التنك).. ونروح (نعمل دماغ)!
إستطعت السيطرة على انفعالاتى بصعوبة فالأمر أكثر من احتمالى.. لا أستطيع أن أستوعب المكتوب لعلوه ولا أن أفهم المسموع لدنوه!.. فنهضت من مكانى واقتربت من الشاب وسألته بأدب شديد حتى لا يتحفظ فى الرد عن معانى الكلمات.. على الأقل أطلع بحاجة ! إن لم يكن المكتوب فليكن المسموع:
- معلهش يا ابنى أنا جاهل حبتين واعتبرنى متخلف.. يعنى إيه "نملى التنك".. ويعنى إيه "نعمل دماغ "؟!
-- العفو يا والدى..
- بجد أنا ناقصنى شوية ثقافة!
-- شوف حضرتك.. (نملى التنك) يعنى نملى المعدة بكام سندوتش..
- طيب.. ونعمل دماغ ؟
-- يعنى ناخد حجرين شيشة !
- الله يفتح عليك.. معلهش النهارده سمعت كلمة من الميكانيكى ومعرفتش معناها..
-- إيه هي؟
- الهجايص!
-- وحد ما يعرفش الكلمة دى يا والدى.. دى البلد كلها فى الهجايص!!
- بس.. دى الوقت فهمت !.. طيب معلهش أنا سمعت امبارح فى طابور العيش واحد بيقول "يا عم دى حكومة فى الأمبلايز".. يعنى إيه يا ابنى (الأمبلايز)؟!
-- بصراحة باين إن حضرتك مش مثقف!.. (الأمبلايز) يعنى الفشل!
خرجت من المكان وأنا أهمس لنفسى "ضاع العمر يا ولدى"!.. وأفقت على صوت مقرئ ينساب من مذياع على بعد خطوات يرتل من آيات الله البينات: "يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من الذين قالوا ءامنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.. ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم ءاخرين لم يأتوك.. يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا.. ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا.. أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم.. لهم فى الدنيا خزي ولهم فى الآخرة عذاب عظيم"..
أخذت أردد "صدق الله العظيم.. صدق الله العظيم.. صدق الله العظيم".
الرئيسية
مركز التحميل
