حماس هي النموذج الواضح للاقامة خارج العصر، ولكن هذا لا يمنح احدا الحق في القاء خطيئة المجازر التي ارتكبتها اسرائيل على رأس حماس.
اسرائيل- في جرائمها ضد الانسانية التي ارتكبتها ضد الفلسطينيين في غزة- تمثل بطش الغزاة في اكثر صور هذا البطش عنفا ودموية ولا انسانية. ويجب علينا امام هذا الغزو غير الاخلاقي ان لا نعفي الغزاة من المسئولية القانونية الدولية والاخلاقية ويجب العمل الجاد على فضحهم عالميا و محاكمة المسئولين منهم عن المجازر ضد المدنيين من الرجال والنساء والاطفال. لايصح لاحد ان يجد عذرا لاسرائيل ويلقي باللوم على حماس- فرغم اختلافي في الاساس مع حماس ونهجها الديني وخطابها السلفي وهدفها في اقامة الدولة الدينية التي هي النموذج الواضح للإقامة خارج العصر وعدم القدرة على قراءة الواقع الا ان هذا لا يمنحني – ولا يمنح غيري- مبررا لإلقاء خطيئة المجازر على رأس حماس فالمسئول الاول عن كل خطيئة هو مرتكبها وفاعلها.
احد اهم اسباب المأساة هو ان (امة "اقرأ" لا تقرأ) كما قيل. ولست اقصد فقط ان ما يقرب من نصف العرب اميون لا يقرأون ولكن اقصد ايضا ان الذين يقرأون منهم لا يحققون الغرض الاول من القراءة وهو الفهم والاستيعاب. ومنها قراءة الواقع وفهم عناصر تركيبه وقواه الفاعلة وقراءة التاريخ واستيعاب دروسه، وقراءة احتمالات المستقبل القريب والبعيد واستشراف امكاناته والتخطيط لتشكيله.
لا يمكن لمن يعيش خارج العصر ان ينتصر على من سبقه بخمسة قرون في مسيرة التطور. هذا ما حدث لسكان امريكا الأصليين من "الهنود الحمر" اذ لم يكونوا قد اخترعوا العجلة بعد عندما واجهوا اول المغامرين الذين جاءوهم من اوروبا مدججين بأسلحة القرون الوسطي وانماط تفكيرها. ولا اقول ان العرب اليوم في مواجهة بقية العالم هم كالهنود الحمر امام الاوروبيين المهاجرين فنحن اليوم في عالم مفتوح والعرب يستعملون ادوات الحضارة المعاصرة المتاحة للجميع ولكنهم لا يفقهون كحضارة وكمجتمعات انماط تفكير وقوانين وسلوكيات وقيم العصر الحالي وما يحيطهم منه من حضارة.
لقد اصيب المجتمع العربي –ومنه مصر- على مدى تاريخه بلعنة وكأنها لعنة الفراعنة هي لعنة الصراع الابدي بين الطغاة والدعاة او بتعبير آخر بين السلاطين والشيوخ او بين السلطة السياسية والدعوة الدينية. وبين هاتين القوتين الهائلتين راح البسطاء من البشر يحاولون التوفيق والموازنة والمساومة بين خوفهم من واحدة ورعبهم من الاخري فالسلطان يملك مفاتيح الارض وصنابير الماء ومخازن الطحين وخزائن الذهب ويملك بالسيف مصير اعناقهم فحياتهم على الارض رهن مشيئته ورضاه. والداعية يملك مفاتيح السماء والحياة الابدية التي لايريد الفقير ان يخسرها هي الاخري بعد ان خسر الدنيا. ولذلك فعليه ان يتبع الداعية ويخضع لاوامره ونواهيه وطلباته وتحذيراته وعليه ان يتجنب غضبه ولعناته المفتوحة لها ابواب السموات.
ظل هذا الصراع بين الطغاة والدعاة قائما حميما. باهظا ودمويا على مدي التاريخ العربي والي اليوم. رأيناه في الاغتيالات السياسية في صدر الاسلام ورأيناه مؤخرا في الصراع المستمر بين حركة الاخوان المسلمين والسلطة السياسية في مصر ورأينا الاخوان يقومون بعمليات اغتيال لشخصيات سياسية مصرية في العهد الملكي ويرد الملك فاروق بتدبير عملية اغتيال مرشد الاخوان على يد الحرس الحديدي التابع له. ثم نرى الاخوان يطلقون الرصاص على عبدالناصر محاولين اغتياله، فيقوم بإعدام بعض اقطابهم وسجن وطرد الالاف من الباقين ثم تنشق عنهم جماعات اكثر تطرفا تقوم باغتيال السادات وتقوم باغتيال رموز المجتمع المصري السياسية والثقافية من الشيخ الذهبي الى نجيب محفوظ واليوم يستمر صراع الاخوان مع النظام بشكل يومي.
ذلك النزاع الدائب الباهظ المهدر لطاقت الامة والمحبط لزهرة شبابها بين الطغاة والدعاة يؤدي الى ضعف في كافة مناحي الحياة في المجتمع العربي ويدفع الطغاة الى المزايدة على الدعاة بادعاء التدين والتزين ببعض ارديته الخارجية مع السماح للدعاة بحرية العمل داخل المجتمع في حدود الالتزام بالابتعاد عن مناطق نفوذ السلطة وهو ما يؤدي الى انحطاط حضاري شامل.
ويتراوح الصراع بين الطغاة والدعاة فيميل احيانا نحو واحدة واحيانا نحو الاخرى. وقد رأينا في ايران غير العربية نموذجا مشابها حين قام الامام الخميني بخلع الشاه واقامة دولة آيات الله فإيران مجتمع يتشابه مع المجتمع العربي –وخاصة مصر- في كثير من طبائعه. وتنتهي حالة الضعف الداخلي للامة نتيجة صراع الطغاة والدعاة الى اسالة لعاب الغزاة فيقومون بالهجوم والاحتلال.
ان الناس لا تتبع الحركات الدينية المتشددة الا عندما تيأس من الحصول على حقوقها الانسانية وكرامتها الوطنية من القيادة السياسية والحل الاوحد لمشكلة الحركات الدينية في المجتمع العربي هو القيادة السياسية التي تدافع عن حقوق الوطن والمواطنين بشكل واضح قوي علني وعقلاني وليس صدفة ان الشارع المصري لم يعرف الفرز الطائفي ولا التطرف الديني في ايام سعد زغلول وايام عبد الناصر ففي العهدين كانت القيادة المصرية واضحة الوطنية تقف بشدة ضد المحتلين والمعادين للوطن، ولذلك لم يكن هنالك مجال ينمو فيه التطرف الديني.
اما اليوم فالمواطن العربي العادي لا يفهم ما يفعله قادته امام الاعتداءات الصارخة على الامة ففي العدوان على العراق قالت مصادر غربية ان بعض القيادات العربية كانت مؤيدة للعدوان وفي حالة حماس حدث نفس اللبس وهذا يجعل المواطن يفقد ثقته في قيادته السياسية ومع احواله الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية المتردية لا يبقى امامه سوى الانجراف مع التيار الاسلامي.
عندما عجزت فتح ورئيس السلطة عباس عن تحقيق السلام والحرية والعدالة للفلسطينيين كان من المنطقي جدا اللجوء الى حماس. فاسرائيل والولايات المتحدة بهذا مسئولتان عن تشجيع التشدد الديني وصعود الحركات الدينية مثل الاخوان المسلمين وحزب الله وحماس بسياساتهما الباطشة العدوانية بالمنطقة . فبعد رفضهما اعطاء عرفات دولة متكاملة فعالة في الضفة وغزة وطالبوا بعباس بالإسم لم يعطوه شيئا حينما استلم السلطة. وبهكذا تعنت وجشع في اغتصاب ارض وحقوق الغير مهدوا الارض لقدوم حماس للسلطة.
ولكن لماذا نلوم الغزاة على استغلالهم لضعفنا ؟ الاولى ان نحل مشاكلنا بأنفسنا بتقديم القيادة السياسية الواعية – النقية – المتغيرة – والسماح للاجيال الجديدة بالمشاركة الفعالة في كافة مواقع القيادة والادارة والدفاع عن حقوق الوطن والمواطن وهو ما سيحدث تلقائيا مع تداول السلطة وتبادلها بين احزاب متنوعة تتنافس على تقديم خدمات حقيقية للمواطن تضمن بها نجاحها مع تقديم ثقافة متحررة مستنيرة تكف عن المزايدة على التيار الديني وتقدم بديلا حضاريا عصريا متوهجا.
للاسف ستتكرر مذابح غزة –وفلسطين عموما- ولبنان – والعراق – وغيرها مع استمرار صراع الطغاة والدعاة داخل المجتمع العربي، وتربص الغزاة على الابواب. وسنستمر في الدائرة- الثلاثية – المفرغة نعيش خارج العصر بعيدا عن منطقه لا نقدر على قراءة الواقع ولا نقابل المستقبل سوي بالدهشة والصراخ والدم المسفوك عبثا وهدرا.