كان سليمان (عليه السلام) إذا جلس على كرسيه، جاءت الجن والملائكة، والإنس فاصطفوا حواليه، على كراسي معدّة لهم. وجاءت جميع الطير التي سخّرها الله لسليمان، فاصطفت على رؤوس الجميع، لتظللهم من الشمس، وكان لكل طائر مكان مقرّر له، فإذا أشرقت أشعة الشمس على موضع من البساط نظر الحاضرون إلى الكوة، فعرفوا أي الطيور تخلّف عن وظيفته. وكان الهدهد ـ وهو طائر جميل، من خواصّه أنه ينظر إلى الماء في باطن الأرض ـ من جملة الطيور لتضلّل الجمع في الصافات على مجلس سليمان. (و) ذات مرّة نظر سليمان، وإذا بالشمس تخرق صفّ الطير، وتقع أشعة منها على حجر سليمان فـ(تفقّد الطير) طلبها وتعرّف إليها، ليرى أي الطير غاب عن صفه، حتى أرسلت الشمس بريدها إلى المجلس.. وإذا بسليمان يرى أن الهدهد هو الغائب (فقال مالي لا أرى الهدهد)؟ أي ما للهدهد لا أراه؟ هل حدث له حدث، (أم كان من الغائبين)؟ وكيف يغيب الهدهد، بلا إذن؟ وهل يجوز لأحد الجند ـ طيراً كان أو غيره ـ أن يترك وظيفته ليذهب حيت يشاء؟ غضب سليمان من هذا الحادث، وحلف قائلاً (لأعذِّبنَّه عذاباً شديداً) بنتف ريشه (أو لأذبحنّه) حتى يكون ذلك ردعاً لغيره من الجنود، وجزاءً على مخالفته الأمر، وهذا التعذيب أو الذبح يكون إذا لم يأتني الهدهد بعذر واضح (أو ليأتينّني بسلطانٍ) أي عذر لغيبته (مبينٍ) واضح لا يقبل الشك والإنكار. لقد غضب سليمان على الهدهد لتركه وظيفته بدون استئذان ونوى عقوبته (فمكث) سليمان مكوثاً (غير بعيد) وما هي إلا فترة قصيرة، حتى رأى الهدهد راجعاً. سأل سليمان الهدهد: أين كنت؟ ولماذا غبت؟ وما هي الحجة والعذر في تركك الوظيفة بدون استئذان؟ (فقال) الهدهد يا نبي الله لا تعجّل علي بالعقوبة، فقد ذهبت استطلع لأجلك وإذا بي (أحطت) واطّلعت (بما لم تحط) ولم تطلّع (به) أنت (وجئتك من سبأ) وهي أرض في اليمن (بنبأ) أي خبر (يقين) فليس الكلام كذباً وإنما كلامٌ صادق. وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (أن سبأ كان اسم رجل ولد له عشر أولاد، وصاروا آباء قبائل، نحا نحو الشام منهم أربعة، وهم: لخم، وجذام، وغسّان، وعاملة. ونحا نحو اليمن منهم ستةٌ، وهم: كندة، والأشعرون، والأزد، وحمير، ومذحج، وإنمار: ومن انمار صارت: خثعم، وبجيلة)(1). فسمّى تلك البلدة، باسم أبي هؤلاء الأولاد: رؤوس القبائل العربية. |